لم تدهشني الكارثةُ التي روّعت مصرَ وقتها وجعلتها تنام ليلتها باكيةً على أبنائها الذين صرعهم أجلافٌ، في صدورهم غلاظةٌ، وفي أدمغتهم دمويةٌ، وفي وجوههم لُحىً مشعثةٌ يوهمون بها الناسَ أنهم نُسّاكٌ متدينون، وهم أقصى كائنات الأرض عن معرفة الله. لم أندهش. بل قلتُ، والحَزَنُ يغمرني، إنني أترقب، مع كل نهار جديد، كارثةً كتلك، وقلبي يلهجُ بالدعاء أن يكذِّب اللهُ ظنّي الذي ظل يُنبئني بأن كارثةً طائفية قادمةٌ، تتلوها كارثةٌ فكوارثُ. وهو للأسف ما حدث. فلم تتوقف تفجيراتُ الكنائس وقتل المسيحيين رغم ثورة التصحيح، 30 يونيو 2013، التي طردت الإخوان وأشباههم ليس فقط من حكم مصر، بل من قلوب البسطاء الطيبين الذين صدّقوهم وانتخبوهم وهم يظنّون فيهم الخير! أنبأني حدسي بهذا منذ تقاعستِ الدولة المصرية عن القبض على هادمي كنيسة "صول"، كنيسة الشهيدين بمحافظة حلوان في مارس 2011، التي ظلّ الإرهابيون اثنين وعشرين ساعة متواصلة يهدمونها على مرأى من العالم ومسمع، دون أن تتدخل الدولة لتوقيفهم ومعاقبتهم. وبعد تمام عملية الهدم، اكتفت الدولة "بتطييب خاطر" الأقباط، على مبدأ "العوض"، بأن أعاد جيشُنا العظيم بناء الكنيسة في وقت قياسيّ وعلى أجمل ما يكون. دائمًا يكون الرهانُ على طبيعة المسيحيّ المتسامحة وميله لغفران الإساءة، كما يأمره كتابُه وأخلاقُ السيد المسيح المتسامحة، التي علّمتهم أن غفرانَ الإساءة هو الطريق إلى الله وملكوته. وهو رهانٌ طيبٌ لا يخيب. ولكن من العيب، كل العيب، أن يكون هذا رهاننا، لأن الإرهابيَّ يستغلّه على نحو قبيح.
ليلة افتتاح كنيسة صول، بعد إعادة بنائها في أسابيع قليلة، كنتُ على الهواء، في أحد البرامج، وأجرى البرنامج مداخلةً تليفونية مع الأنبا ثيودوسيوس أسقف الجيزة الذي كان سيفتتح الكنيسة بصلاة القيامة في اليوم التالي. قدّم الأسقف جزيل الشكر للقوات المسلحة على جهدها الفائق في إعادة بناء الكنيسة في اثنين وعشرين يومًا. فسألتُه: "وماذا عن القبض على الجناة يا أبونا؟" فأعاد الأسقفُ شكرَ الله والثناء على الجيش لأن أبناء الحيّ سيتمكنون من إقامة الصلاة غدًا في كنيستهم قائلا "إن حزنهم الآن قد تبدد!”
الحكايةُ ببساطة أن الحكومة تدرك طبيعةَ الأقباط المتسامحة، مثلما تدرك طبيعة المتطرفين الدمويةَ المتعطشةَ للخراب! فنستغلّ، بكل أسف، تسامح الضحية، ونخشى جبروت المجرم، الذي بات أكبر تهديد على أمن مصر! تفجيرُ كنيسة وقتل المُصلين قد يستغرق دقائق قليلة، يمكن معها أن يفرّ الجاني، كما حدث بكنيستيْ الإسكندرية، ونجع حمادي 2010، والكنيسة المرقسية بالأمس وعشرات الكنائس غيرها على مدى الأربعين عامًا الماضية، لكن هدم كنيسة استغرق 22 ساعة! فأين الجُناةُ، ولدينا جميعًا فيديوهات توضح ملامحهم، بل وأسماءهم إذْ كانوا ينادون على بعضهم البعض وهم يكبّرون "الله أكبر" فيما يقوضون بالمعاول بيت من بيوت الله؟! كيف لم يتم القبض عليهم ومعاقبتهم، حتى اليوم 2016؟! لصالح مَن؟ لصالح مَن سارعت الحكومةُ ورجالُ الدين الإسلامي بإقناع "أيمن ديمتري"، الذي بتر المتطرفون أُذنه بحجة تطبيق شرع الله فيه، بالتنازل عن حقّه، وحق المجتمع، وحق مصر، في القصاص من مجرمين؟ الإجابةُ: لصالح خراب مصر، والمزيد من الكوارث وتقتيل الأقباط مع كل نهار! لا ألوم الذئبَ لأنه دمويّ، فتلك طبيعته، لكنْ كيف لا ألوم مَن يتركه يسفك الدماء؟!
في مظاهرات ماسبيرو كان الأقباط يهتفون: "بالطول، بالعرض، عاوزينها في نفس الأرض!" يقصدون أنهم لن يقبلوا إلا إعادة بناء الكنيسة المهدمة في نفس مكانها الأصلي! لا حول ولا قوة إلا بالله! قلتُ لنفسي. ما أقلّ شعورهم بحقوقهم، وما أسهلَ إرضاءهم، وما أيسرَ الجَوْر عليهم! لذلك صعدتُ على منصة ماسبيرو وخطبتُ فيهم قائلة "إن إعادة بناء الكنيسة لن تمحو أسباب الهدم التي ستظل موجودة مادام ذوو النفوس المريضة طُلقاء يعيثون في مصرَ خرابًا! لابد أن تطالبوا بسرعة توقيف الجُناة، وإقالة المحافظ المتراخي، وتطبيق قانون موحّد لدور العبادة."
ما أشبه جلسات الصلح العُرفية بقبلة يهوذا الإسخريوطي الذي سلّم السيدَ المسيح عليه السلام للرومان ليُرفع على الصليب. ثم يُرفع إلى السماء ناجيًا حسب شريعتنا الإسلامية، أو يُصلب وينزف حتى الموت وفق شريعة المسيحية. بعد عهد طويل من جلسات الصلح العرفية، ومئات من "قُبلات يهذوا"، استقرّ في وعي الإرهابيين أن "دِيّة" المسيحيّ يسيرة، وأن دمه مقدورٌ عليه. لأن القانون تميلُ كفّتُه في الجرائم الطائفية، بسبب قبول المسيحيين بقبلة يهوذا، وارتكاننا إلى قبولهم الترضية غير المبنية على عدالة القانون. "الصلح خير، قوم نتصالح" دون شكّ قولة جميلة وطيبة، ولكن فقط حين ترتكز على أسس العدالة والمواطنة وحفظ الحقوق وسيادة القانون واحترام حق الحياة وحق حرية العقيدة. فمن أمِن العقاب، أساء الأدب.
هذا الخبر منقول من : المصري اليوم