البابا شنودة.. معنى حقيقي لأبوة زهدت الذات لتخدم الكل مع نص الوصية الاخير له

.





ترك كل شئ في سبيل الحياة مع الله، والإنفراد معه بعيداً عن ملاهي الدنيا، استغنى بـ "الله" عن كل شئ، بل وجد كل ما هو أرضي ومتصل بالعالم "نفاية" وليس له آى قيمة، إذا ما قورن بلحظات يحياها في حضرة الله، ويتمتع برعايته وحنوه واحتواءه - له كل المجد- لأولاده.
في الذكرى الخامسة لنياحته، نتأمل قليلاً في حياة البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وعلاقته بالله ومدى عمقها الذي دفعه لترك كل شئ والاكتفاء بالله فقط.


طفولته


ولد باسم نظير جيد روفائيل، في الثالث من أغسطس عام 1923، في قرية سلامة مركز أبنوب الحمام محافظة أسيوط، كان والده شيخ البلد، وتوفيت أمه بعد مولده بساعات، فتولى تربيته شقيقه الأكبر رافائيل.
تسبب وفاة والدته في حالة من الارتباك آدت إلى تأخر استخراج شهادة الميلاد للطفل "نظير جيد"، وآدى بدوره لتأخر التحاقه بالمدرسة لمدة عام كامل، فعكف على القراءة محاولاً تعويض الأمر، أحب القراءة منذ الصغر حباً جماً، فكان يقرأ "كل ما يقع بين يديه" بحسب تعبيره، حبه للقراءة أصقل موهبته في الكتابة، فقد كان موهوباً في مختلف أنواع الكتابة، وكان محباً للشعر بشكل كبير جداً.


دراسته


تدرج في المراحل الدراسية، حتى التحق بجامعة فؤاد الأول، في قسم التاريخ، وبدأ بدراسة التاريخ الفرعوني والإسلامي والتاريخ الحديث، وحصل على الليسانس بتقدير (ممتاز) عام 1947، وعمل مدرساً للتاريخ، ثم انضم إلى مجلة مدراس الآحد وعمل بها محرراً لعدة سنوات، حتى وصل إلى منصب رئيس التحرير بفضل اجتهاده وموهبته، كما أنه كان ينشر مقالات وكتابات بشكل منتظم في جريدة الأهرام، وفي الوقت نفسه كان يتابع دراساته العليا في علم الآثار القديمة، وبعد ذلك التحق بالجيش برتبة ملازم.




زهد العالم وقرار الرهبنة


وبالرغم من كل ما حققه من نجاحات وما توصل إليه في مجال عمله، وتدرجه في مجال الصحافة بفضل موهبته الفريدة واجتهاده، وأبواب المستقبل التي كانت مفتوحة أمامه ليصبح من كبار صحافيين مصر في حالة استمراره، إلا أنه وبكل إرداته ترك وتخلى عن كل هذا، واختار حياة الرهبنة والابتعاد عن هذا العالم وتكريس الباقي من حياته لخدمة الله.


ورسم راهباً باسم (انطونيوس السرياني) في يوم السبت 18 يوليو 1954، وقد قال أنه وجد في الرهبنة حياة مليئة بالحرية والنقاء، ومن عام 1956 إلى عام 1962 عاش حياة الوحدة في مغارة تبعد حوالي 7 أميال عن مبنى الدير مكرساً فيها كل وقته للتأمل والصلاة.


وبعد سنة من رهبنته تمت سيامته قساً، وأمضى 10 سنوات في الدير دون أن يغادره، حتى عمل سكرتيراً خاصاً للبابا كيرلس السادس في عام 1959، ورُسِمَ أسقفاً للمعاهد الدينية والتربية الكنسية، وكان أول أسقف للتعليم المسيحي وعميد الكلية الاكليريكية، وذلك في 30 سبتمبر 1962.


وبعد نياحة البابا كيرلس في الثلاثاء 9 مارس 1971، اختارت العناية الإلهية البابا شنودة الثالث، ليتسلم كرسي الباباوية ويستكمل المسيرة، وجاء حفل التتويج على كرسي البابوية في الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالقاهرة في 14 نوفمبر 1971 وبذلك أصبح البابا رقم (117) في تاريخ البطاركة.


لم يكن البابا شنودة مرحباً بفكرة البطريركية، فقد كان يتمنى طوال حياته البعد عن العالم والناس، ولكنه تقبل تلك المسئولية من يد الله، وانصاع للرغبة الإلهية بأن يستكمل المسيرة من بعد البابا كيرلس السادس، فيقول عنه الأنبا أرميا السكرتير الخاص له، أن الجانب الخفى فى شخصية البابا شنودة هى شخصية الراهب الحقيقى، أمام الناس كان يظهر فى صورة البطريرك القوى أما فى قلايته فكان ينعزل ويعيش حياة الرهبنة والفقر الاختيارى فكان بسيط وقليل الأكل، ويعيش حياة هادئة ويهتم بالقراءة والمحاضرات ويحضر نفسه ويذاكر قبل أن يلتقى أى شخص.


واستكمل البابا شنودة مسيرته في كتابة المقالات الدينية ، وكان يعتبر مقالاته نوعا من التواصل الانسانى بينه وبين البشر وكان يقصد أن تخاطب مقالاته كل الناس المسيحى والمسلم والكبير والصغير فلا يتعمد أن يخاطب فئة دون غيرها، وكتب مقالات عديدة فى كل الصحف، وأجرى لقاءات صحفية وإعلامية فى العديد من الصحف والمجلات واستطاع أن يتواصل مع الكل، وحتى بعدما تدهورت صحته وبدأ فى مرحلة غسيل الكلى، ولم يعد يستطع الكتابة لم يكف عن الكتابة وكان يستعين بالأنبا ارميا سكرتيره ليقوم بإملائه، وبدأ في ذلك عام 1998 حين أصيب بالهربس، وكانت أول مرة يملي فيها البابا شنودة الأنبا ارميا، أما المرة الثانية فكان حين أصابه داء الكلى، ويقول الأنبا ارميا عن تلك الفترة "بدأت أتعلم منه كيف يختار مقالاته، وما نوع المقالة التى يكتبها فتفيد الناس؟، ومتى يكتب فى الأحداث المختلفة؟، فالبابا لم يكن يعمل بنظام الفعل ورد الفعل بل كان يعمل بنظام البناء الثقافى والاجتماعى، فتعلمت ما الذى يمكن أن أكتبه فيفيد وما الذى يكتب فيضر؟، وكان يعلق أحيانا وهو يملينى وكل هذه التعاليم ترسخت فى ذاكرتى".



كيف تعامل مع الاضطهادات؟


مر البابا شنودة في حياته بعدد من المحطات البارزة، على المستوى الخدمي والكنسي والسياسي، وكان دائماً محتفظاً بهدوءه، واثقاً فيما يدبره الله له، ففترة إقامته الجبرية بالدير بأمر الرئيس الراحل محمد أنور السادات، تقبل الأمر بهدوء، واستمر في خدمة شعبه وكنيسته من مقره بالدير، حتى أظهر الله مشيئته من هذا الأمر، حين قٌتل السادات على المنصة في احتفالات نصر أكتوبر، ونجى البابا شنودة من أن يكون الضحية الثانية في هذا اليوم إذا كان جالساً بجانب السادات، وبنفس الهدوء والثبات تعامل البابا شنودة مع كل الاضطهادات الموجهة للمسيحيين في عهده، والتي كان آخرها حادثة كنيسة القديسين، وكان البابا وقتها حريصاً على تهدئة المسيحيين، والتأكيد على الانتماء لهذا البلد، وعدم الانصياع وراء آى شئ من شأنه إحداث فتن طائفية وتخريب الوطن، وكان يظهر في عظاته دائماً بعد آى حادثة يتحدث عن مدى رعاية وحماية الله لأبنائه، ويأكد على البركات التي ينالها الإنسان عندما يتقبل الضيق قبل الرحب من الله.



نياحته


مرت الأيام وعاش البابا شنودة راعياً حنوناً وشخصية استثنائية وفريدة بالنسبة للمسلمين قبل المسيحيين، حتى اشتد عليه المرض، وكان يترقب ويشعر بقرب انتقاله إلى السماء، وأبلغ من حوله بالأمر مما دفعهم لدراسة لائحة تولي بابا جديد لشئون الكاتدرائية، وكما يروي الأنبا يؤنس أنه كان يجلس بجوار البابا شنودة يومياً، وفي فجر يوم السبت في الساعة الخامسة والنصف صباحاً وجده يقول "قوله كفاية كده.. كفاية"، وكأنه يترجى الله أن يأخذ روحه ليستريح من تلك الآلام، وبالفعل لفظ أنفاسه الأخيرة في الخامسة وربع من مساء السبت الموافق 9 مارس 2012، تاركاً في أبناءه ذكرى لأب راعي حنون علمهم كيف يحبون الله محبة حقيقية ويخدمونه بكل قوتهم، رحل وسط حزن شديد خيم على مصر كلها بكل أطيافها ودياناتها، وسط شهادات الجميع بأن العالم اليوم خسر شخصية استثنائية لن تتكرر ثانية.






وصيته الأخيرة


بعد أن كتب وصيته الأخيرة لأبنائه، وقام بقراءتها الأنبا بفنتيوس أسقف سمالوط، وجاء فيها، «أسأل المسيح أن يقيم لكم راعياً صالحاً فحسب قلبه يرعاكم، كما أننى يا أبنائى لم أخف عنكم يوماً من الأيام أى شىء من كلام الله، فقد بعدت عنكم ورحلت عنكم الآن وأسألكم أن تتعبوا من أجل الصلاة عنى والذكر وليس فى نفسى أى حزن من أى أحد منكم».


وأشار البابا فى وصيته إلى أن هناك العديد من المخاطر التى تحيط بنا جميعاً وعلينا أن نتجاوزها بالمحبة والتسامح والإخلاص فى العبادة والطاعات.




وإليكم النص الكامل كما هو فى خطابه:


"أنا أبوكم ومعلمكم يا جميع البنين اسمعوا وصاياى لأنى أسألكم يا أولادى الأحباء احفظوا الأمانة للثالوث القدوس.. أسألكم يا أولادى الأحباء أحبوا بعضكم بعض بمحبة حقيقية ..أسألكم يا أولادى الأحباء اصنعوا الخير مع البشر".
أسألكم يا أولادى الأحباء لا تدعوا العالم يضلكم.. أسألكم يا أولادى الأحباء ألا تتوانوا فى خدمة الله..أطلب إليكم يا أولادى الأحباء أن تتعبوا فى الصلاة..أطلب إليكم يا أولادى الأحباء أن تحفظوا ألسنتكم من الوقيعة.


أطلب إليكم يا أولادى الأحباء احفظوا المعمودية التى دفعت إليكم..أطلب إليكم يا أولادى الأحباء احفظوا أجسادكم طاهرة للرب.. أطلب إليكم يا أولادى الأحباء لا تتركوا مصابيحكم تنطفئ..أطلب إليكم يا أولادى الأحباء احفظوا الناموس الذى أعطاكم الله..أطلب إليكم يا أولادى الأحباء لتكن مخافة الله فيكم.. الله يشهد يا أولادى الأحباء أنى لم أخف شيئا عنكم من كلام الله..لم أنم قط وملامة بينى وبين واحد منكم، فإذا حفظتم الذى أقوله لكم تدوسون على رأس التنين..إذا حفظتم الذى أقوله لكم فأنتم تأكلون من خيرات الأرض.. إذا حفظتم الذى قلته لكم فإن الشاروبيم المنير يحرسكم..إذا حفظتم ما أقوله لكم لا يعوزكم شىء من خيرات السماء.


أنا أسالكم يا أولادى الأحباء أن تسألوا المسيح فى نفسى أن يعطيها راحة ولا يؤاخذنى لما سلف منى من الزلل والهفوات.
ويقول البابا للأساقفة والقسوس: أطلـــــب إلى محبتكم وأتضرع إلى قدسكم أن تجعلونى فى حل من كل واحد منكم وها الآن قد بعدت عنكم ورحلت ولم أعد الآن أرى وجوهكم وأنا الآن أسألكم أن تتعبوا فى الصلاة عنى والذكر فى القداسات أن يقبلنى سيدى إليه ويصفح عن جميع ما تقدم منى.


وأنا أسـأل المسـيح راعـى الرعاة الأعظم أن يقيم لكم راعياً صالحاً حسب قلبه يرعاكم ويسوى أموركم ويسهر على خلاص نفوسكم.





كن مدون

المشاركات الشائعة

https://st-julius.blogspot.com.eg/. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

المساهمون

انشر معنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

إجمالي عدد زوار الموقع هذا الشهر

4,359,818

بحث هذه المدونة الإلكترونية

اضغط هنا للاستعلام الان

blogger

Translate

blogger

الاكثر مشاهدة

https://st-julius.blogspot.com.eg/

hi

مقالات

اضغط هنا للاستعلام الان

المشاركات الشائعة