رباب كمال : قيمة التسامح أم متلازمة التسامح ؟

. . ليست هناك تعليقات:

الكاتبة الاستاذه رباب كمال
لا شك أن قيمة التسامح قيمة كبيرة نحتاج إليها في عالم فقد اتزانه وانزلق في دوامات الكراهية والبغض وخطاب الكراهية ضد الآخر، والتسامح هنا لا نقصد به النظرة الاستعلائية التي يتحدث بها البعض على طريقة أن التسامح عطية الأغلبية للأقلية، بل لابد من التعامل مع التسامح من منطلق التعايش  Co-existence . وهو تعايش سلمي مع الأديان والأجناس والأقليات والأيدلوجيات السياسية مهما كانت مختلفة عنا، وهو أمر أكبر بكثير من اختزاله في شعارات الوحدة الوطنية.
مقومات التسامح أولا: التسامح يستلزم قوانين وتشريعات تحرض على قيمة التسامح الحقيقية، كما يحتاج إلى تشريعات تضمن أن يقف القانون والدولة على مسافة متساوية من الجميع، ولهذا فإن غالبية الدول العربية ستظل تعاني من هذا الأمر طالما تحتوي دساتيرها على مواد تجعل من دين الأغلبية المصدر الأساسي للتشريع، ومهما نصت بقية مواد الدستور على الحريات، ستصطدم دومًا مواد الحرية بمادة فوق الدستورية، وهي مادة دين الدولة التي يتم تطويعها سياسيا، وهنا تحولت سياسة و ثقافة الأغلبية إلى ثقافة غلبة أي فتونة، فأصبح فيها تعريف التسامح بأنه تنازل الأغلبية عن مساحة تتحرك فيها الأقلية.
ثانيًا: قيمة التسامح ثقافة تبدأ أولا من المجتمع، وإلا أصبحنا مجتمعًا فاشيًا، وبالتالي كيف يمكن لمجتمع فاشي أن يطالب بسلطة غير فاشية ُتقدر التسامح والتعايش، فكيف تشكو من فاشية النظام وأنت تمارس فاشيتك على الآخر؟ أتذكر جيدا تلك الأصوات التي كانت تعلو إبان ثورة 25 يناير لتشكو من التعذيب في أقسام الشرطة المصرية، وهي نفس الفصائل التي أرادات تشريعات تطبق فيها الدولة قطع الأيدي و الأرجل؟! فأصبح هناك فصيل يرفض فاشية النظام ليس لأنه ضد الفاشية ولكن لأنه يريد فرض فاشيته.
ثالثُا: قيمة التسامح تتطلب ألا يكون التسامح انتقائيًا، وإلا ُفقدت قيمة التسامح وتحول إلى عنصرية بنكهة التسامح، فبعضنا يروج للتسامح مع المسيحيين ولكننا نعتبر أن التعايش مع الشيعي أو اليهودي أو الملحد أمر لا يجوز وهذه ظاهرة ممكن أن نسميها "عنصرية التسامح".
رابعا: فيلسوف الأخلاقية الاجتماعية الأمريكي ايريك هوفر (1983- 1898) قال إن التسامح هو القدرة على تحويل العدو إلى صديق، وهي عبارة فلسفية يمكن إن تم تطويعها على الأرض أن نكبح جماح ثقافة الكراهية ونعزز قيمة التعايش ولكن المقولة السابقة كانت ُعرضة للابتذال السياسي وتحولت من قيمة التسامح مع المختلف فكريًا إلى نظرية التسامح الأرعن، لأن التسامح مع اللامتسامح انتهاك وتدمير لفكرة التسامح.
متلازمة التسامح: التسامح قد يكون قيمة إنسانية نبيلة وقد يتحول إلى متلازمة نفسيةSyndromeتحمل أعراض شديدة الخطورة ومنها التسامح مع حامل السلاح في وجه الوطن، أي المنادة بالتسامح مع من يلجأ للإرهاب ضد مواطن أعزل مسالم، أو المطالبة بوقف العنف المتبادل بين مسلح في جماعة جهادية وجندي يحمل السلاح للدفاع عن الأرض ضد غارات الإرهاب الدموي، فالحوار مع الإرهاب المسلح ليس تسامحًا ولكن في لغة التاريخ والسياسة ُيعرف باسم "الإذعان". .
نُهدي إلى أنصار التسامح مع الإرهاب واعتبار حرب الجنود في سيناء مع الجهاديين "عنف متبادل" المحاضرة التي ألقاها فيلسوف النقدية العقلانية كارل بوبر (1902-1994م) في جامعة توبنجن الألمانية وحملت عنوان: "التسامح والمسؤولية الفكرية" ونشرها لاحقا في كتابه "بحثا عن عالم أفضل" الصادر سنة 1989م وقال فيها: " إذا منحنا التعصب والتطرف الحق في أن ُيحتمل، فإنا بهذا الموقف ندمر التسامح من أساسه".
وأكد بوبر أنه مع التسامح لكن ليس التسامح في التعصب أو في العنف، التسامح اللامحدود لابد أن يقود إلى اختفاء التسامح, لأننا إن تسامحنا بلا حدود مع المتطرفين، عندها يموت المتسامحون ويموت التسامح معهم.. وبالتالي يجب علينا, وباسم التسامح, أن نعلن حقنا في عدم التسامح مع المتعصبين, ويجب علينا أن نعلن أن أية حركه تدعو للتعصب والتطرف تكون قد خرجت عن القانون, ويجب أن نعتبر أي تحريض على العنصرية والتطرف جريمة.
لربما يتوجب علينا في إطار متلازمة التسامح وأعراضها المزمنة التي وضعنا فيها د. البرادعي ووضع فيها المعتدي والمدافع عن الأرض في كفة واحدة أن نتساءل هل يقابل الجندي الجهادي بباقة من الورود؟
بالتأكيد لا يمكن التقليل من الضرورة الحتمية لمواجهة الإرهاب بثقافة تنوير إلى جانب الحلول الأمنية ولكن هذا لا يعني أن الحل الأمني في مواجهة الإرهاب رفاهية، وفي ظل نظرية وقف العنف المتبادل والتسامح مع الجهاديين ظللت أتساءل: إن احتضنت شخصًا يحمل حزاما ناسفا.. هل يوقف حضني مفعول الحزام؟ إن ابتسمت في وجه فوهة المسدس.. هل تتراجع الرصاصة عن رأسي؟ إن قررت أن أرفع التراب عن سيارة مفحخة.. هل ستكون شظاياها رفيقة بجسدي؟ إن قررت أن أتعاطف مع سيف مسلط على رقبتي.. هل سيكون رحيمًا في ذبحي؟ إن تلقفت قنبلة كما تتلقف صديقة العروس باقة الورود في حفل الزفاف.. هل ستنفجر القنبلة في وجهي بحنان ؟
لا يمكن أن نحض على الكراهية لأن الكراهية تقتل.. كذلك تفعل الأحزمة الناسفة والرصاص والقنابل.. وهم أشد فتكًا.
نحن بحاجة الى ضبط مفاهيم.. حتى لا تتحول قيمة التسامح إلى متلازمة التسامح فتكلفنا أعراضها المزمنة المزيد من الدماء البريئة، فالمليشيات الجهادية ليست فصيلا نختلف معه، هو فصيل يختلف مع مبادئ الإنسانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

https://st-julius.blogspot.com.eg/. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

انشر معنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

إجمالي عدد زوار الموقع هذا الشهر

بحث هذه المدونة الإلكترونية

اضغط هنا للاستعلام الان

blogger

Translate

blogger

الاكثر مشاهدة

https://st-julius.blogspot.com.eg/

hi

مقالات

اضغط هنا للاستعلام الان

المشاركات الشائعة