أحمد عبدالمعطي حجازي يكتب .. الكنيسة كنيستنا.. والتاريخ تاريخنا

.



لا أظن أننا نحن المسلمين المصريين نعرف عن الكنيسة المصرية إلا ما نراه، وهو أنها كنيسة، مؤسسة دينية ترعى شئون المسيحيين المصريين، وتنظم حياتهم الروحية، وإذن فنحن لا نعرف الكنيسة المصرية، لأن وظيفتها محدودة بحدود الديانة التى تخدمها.

لكن الكنيسة المصرية ليست مؤسسة دينية وحسب، وإنما هى إلى جانب ذلك مؤسسة مصرية لها تاريخها، ولها عقيدتها الخاصة، ولها دورها فى حياة الوطن، أى فى حياتنا جميعا نحن المصريين.. مسيحيين كنا أو مسلمين، وهذا ما يجب علينا أن نعرفه، خاصة فى هذه الأيام التى نواجه فيها أخطارا جسيمة تهدد حياتنا فى الحاضر وفى المستقبل، ويتسبب فيها جهلنا بالدين، وجهلنا بالتاريخ، وجهلنا بأنفسنا.

لقد نشأت الكنيسة المصرية منذ عشرين قرنا فى العصور التى كانت فيها الدولة المصرية قد انهارت وضاعت، وفقد فيها المصريون حريتهم واستقلالهم، وخضعوا لحكم الغزاة الأجانب، وفى هذا المناخ المضطرب نشأت الكنيسة، وانحازت للوطن منذ البداية، وتعرضت لما تعرضت له مصر كلها، وقاومت الرومان والبيزنطيين، وظلت تقاومهم حتى بعد أن اعتنقوا المسيحية، وانفصلت عن كنيستهم الرومية، واستقلت بعقيدة مسيحية تميزت بها عن غيرها، وأصبحت بها كنيسة أرثوذكسية قبطية، أى أصبحت تمثل العقيدة المسيحية الصحيحة، وتنتمى لمصر وتمثلها، فهى كنيسة أصولية متفقهة، وهى كنيسة وطنية مستقلة، وهذه حقيقة علينا أن نتذكرها ونستحضرها ونحن نواجه أخطار الطائفية، والتطرف السلفى الوهابي، والإرهاب، وخلط الدين بالسياسة، ونحن نسعى لاستئناف السير فى طريق النهضة، وبناء دولة مدنية ديمقراطية شكلا ومضمونا، وهو ما لا سبيل لتحقيقه إذا ظللنا خاضعين لأوهامنا الموروثة من عصور الظلام والطغيان.

نحن نتعامل مع المسيحيين المصريين كما لو كانوا أقلية زائدة على الحاجة، أو كأنهم دخلاء لا أصلاء، أو كأنهم ـ فى أحسن الأحوال ـ جالية أجنبية، وهى طريقة فى التعامل منقولة عن البدو الرحل الذين يتمايزون بالقلة والكثرة، وبالقبيلة والعشيرة، ولا تجمع بينهم رابطة وطنية.

لكن الذين ينظرون للمسيحيين المصريين هذه النظرة، لم يقرأوا تاريخ بلادهم، ولو قرأوه لعرفوا أن المسيحية دخلت مصر فى القرن الأول للميلاد، قبل أن يدخل العرب المسلمون مصر بستة قرون، وأن المسلمين المصريين ليسوا إلا أبناء المسيحيين المصريين الذين اعتنقوا الإسلام، وأن المسيحية فى مصر ارتبطت بمصر كما لم يحدث فى أى بلد آخر من البلاد التى اعتنقتها.

وعلينا بادئ ذى بدء أن نشير للمكان المتقدم الذى احتلته الديانة المصرية القديمة فى العالم، ولتأثيرها القوى فى عقائد الشعوب الأخري. والذين قرأوا ما قدمه عالم النفس الشهير سيجموند فرويد فى كتابه «موسى والتوحيد» يرون أن موسى لم يكن عبرانيا كما يعتقد الكثيرون، وإنما كان مصريا نبيلا. والدليل على هذا اسمه، فكلمة «موسي» فى اللغة المصرية القديمة معناها «الطفل»، فضلا عن نشأته فى القصر الملكى فى أيام إخناتون الذى خرج على ديانة آمون، وبشر بديانة التوحيد التى حملها موسى إلى اليهود فاعتنقوها وساروا وراءه فى خروجهم من مصر، وهنا نلفت النظر إلى أن فرويد كان يهوديا، وإذن فقد شهد شاهد من أهلها. ونستطيع كذلك أن نستشهد ببريستد الذى يقول فى «فجر الضمير»: إن موسى «قد تثقف بكل حكمة مصر»، وكذلك بالشاعر الألمانى هانريك هاينى الذى يتحدث عن دينه اليهودى متبرما فيقول: إنه «تلك الآفة الوافدة إلينا من مصر القديمة»!

والذين قرأوا كتاب ميرسيا إلياد «تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية»، يرون أن الآلهة المصرية، خاصة إيزيس، كانت تعبد فى آسيا الوسطى واليونان، وأنها دخلت روما وإيطاليا فى القرنين الثانى والأول قبل الميلاد، وأن ما جاء فى اللاهوت المصرى القديم عن الإله بتاح الذى خلق العالم بقلبه وبلسانه، أى بكلمته، يقترب مما ذكر فى اللاهوت المسيحى عن الكلمة «اللوجوس».

والدور الذى قام به فلاسفة الإسكندرية فى الدفاع عن المسيحية. وشرح عقائدها دور مشهود، وفى مقدمة هؤلاء الفيلسوف أوريجين، الذى نشأ نشأة مصرية يدل عليها اسمه المأخوذ من اسم الإله حورس، الذى ينطقه اليونانيون أور، فأوريجين معناه «ابن حورس»، أو «عطية حورس».

من هنا نفهم ترحيب المصريين بالمسيحية، خاصة بعد أن وجدوا فيها ما يذكرهم بتراثهم من ناحية، وما يؤلف بين قلوبهم من ناحية أخري، ويجعلهم جماعة واحدة فى مواجهة الرومان المحتلين الذين اعتبروا المسيحية عقيدة هدامة أعلنوا الحرب عليها وعلى من اعتنقوها، واضطهدوهم وعذبوهم، وهدموا كنائسهم، كما لا يزال بعضهم يفعل عندنا حتى الآن (!) وأحرقوا كتبهم، لكن المسيحية انتصرت فى النهاية على الرومان الذين اعترفوا بها وأعلنوها ديانة رسمية فى إمبراطوريتهم، ومع هذا لم يستسلم المصريون لهم، ولم يروا أن الديانة الواحدة التى أصبحت تجمع بينهم وبين الرومان تعطى لهؤلاء الحق فى أن يواصلوا احتلالهم لمصر، ومن هنا اشتعلت المقاومة من جديد، وتزعمتها الكنيسة المصرية، التى ذهبت فى فهمها للعقيدة المسيحية مذهبا خاصا ينبع من إيمانها بالوحدانية، واعتزازها بالدور الذى أدته فى التبشير بالمسيحية، وشرح عقائدها، واستطاعت به أن تحتل بين الكنائس الأخرى مكانها المتميز، وهو ما حدث فى معظم المجامع التى عقدتها هذه الكنائس خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين لمناقشة القضايا والأسئلة التى كانت تطرح عليها، وأهمها القضية الخاصة بطبيعة المسيح، الذى يعتقد المسيحيون جميعا أنه إله وإنسان فى الوقت نفسه، لكنهم يختلفون فى تصورهم للعلاقة بينهما.

الرومان والبيزنطيون فصلوا بين الطبيعتين، لاهوت المسيح وناسوته، والمصريون جعلوهما طبيعة واحدة، وبهذا انفصلت الكنيسة المصرية عن كنيسة روما وكنيسة بيزنطة، واتخذ هذا الانفصال طابعا خاصا لم يخل من عنف تحولت به الكنيسة إلى مؤسسة وطنية حلت محل الدولة الوطنية المفقودة، وأصبحت مرجعا للمصريين فى الدين وفى الدنيا، وهذا ما سمح لبعض المؤرخين بأن يروا فى بعض البطاركة المصريين فراعنة فى ثياب كهنوتية.

أقول إن من واجبنا فى هذه الأيام أن نراجع هذا التاريخ وأن نعرف له حقه. فالكنيسة المصرية لاتخص المسيحيين المصريين وحدهم، وإنما هى تراث وطنى لكل المصريين. كما أن الاسلام لا يخص المسلمين وحدهم، وإنما هو تراث لكل المصريين.


منقول من الاهرام

المشاركات الشائعة

https://st-julius.blogspot.com.eg/. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

المساهمون

انشر معنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

إجمالي عدد زوار الموقع هذا الشهر

بحث هذه المدونة الإلكترونية

اضغط هنا للاستعلام الان

blogger

Translate

blogger

الاكثر مشاهدة

https://st-julius.blogspot.com.eg/

hi

مقالات

اضغط هنا للاستعلام الان

المشاركات الشائعة