قلتُ فى مقالى ذاك إننى، منذ عهد مبارك، وبعد ثورتى يناير ويونيو، وحتى الأمس القريب، وأنا أنتظرُ ذلك اليوم المتحضّر الذى تُقدّم فيه مصرُ اعتذارًا سياديًّا رسميًّا لأقباط مصر المسيحيين لقاء ما نالهم على يد الإرهاب، منذ حادثة الكُشح والزاوية الحمراء وحتى حادثة كنيسة البطرسية مرورًا بعشرات من حوادث الغيلة والتفجير والقتل والاختطاف والتهجير، التى ذاق المسيحيون نارَها ومُرَّها سنواتٍ وعقودًا، وظلّوا طوال الوقت يقابلون الإساءةَ بالغفران، والإقصاءَ بالمحبة، واللعناتِ بمباركة اللاعن والصلاة لأجله.
تردد ذلك الحُلمُ كثيرًا فى مقالاتى ومحاضراتى ولقاءاتى الصحفية والتليفزيونية، منذ سبعة عشر عامًا. لكن يبدو أن الرئيس يقبعُ فى بؤرة التنوير التى لا يراها كثيرٌ من المسؤولين فى بلادنا، إذ يصرّون على إشاعة الظلام فى جنبات مصر. يبدو أننا مازلنا بحاجة إلى عقود طوال من السعى التنويرى الدؤوب وثورات تعليمية وتثقيفية شاملة تُطيح بالخبث الراكد، وتفسحُ المجال لزهور التحضر حتى تُشرق على أرض مصر، وليس قبل رحيل راهنة الأجيال، أجيالنا، التى تربّت على العنصرية والطائفية والأنانية والأحادية، لتحلَّ محلّها أجيالٌ جديدة نظيفةُ العقول تؤمن بحكمة الله فى الاختلاف والتنوع بين بنى الإنسان، كما تؤمن بحق الأقباط الأصيل فى أرض مصر بحكم التاريخ وبحكم قيم المدنية والمواطنة وبحكم دساتير مصر منذ ١٩٢٣ وحتى ٢٠١٤.
وفى مقابل دواعش المسؤولين الذين يُخرّبون كل جهود التنوير، يثبت باباوات الكنيسة المصرية، جيلاً بعد جيل، وعهدًا بعد عهد، جزيلَ وطنيتهم وحبهم المدهش لمصر وأصالة معدنهم النقى الذى لا يتبدّل مهما تبدّلت الظروف فى بلادنا. هكذا المعادن الشريفة والأحجار الكريمة، كلما صُهرت فى النار ازداد نقاؤها، وعلت درجاتُ بريقها.
فى لقائه الأخير مع ميركل، المستشارة الألمانية، لم يُشر قداسة البابا تواضروس مطلقًا إلى حرق الكنائس، وقتل المصلين وغيرها مما يعيش الأقباط من محن داخل وطنهم، ورفض بحسم إلماحَها لاضطهاد الأقباط فى مصر، بل أخبرها أن الأقباط تحسنت أوضاعهم بعد ٣٠ يونيو! وربما يوجعنا ذلك الكلامُ ونحن نرى دماءَ الأقباط من حولنا لم يتوقف نزيفُها حتى اليوم. لكن من أوجعته العبارةُ، مثلى، عليه أن يتأمل فكرتين أساسيتين:
١- إن البابا يعى أن هذه اللحظة، ومنذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣، هى لحظة إرهاب ممتدة لم تفاجئنا كمصريين، بل كنا نترقّب حدوثها ونحن نُطيح بمرسى العياط، لأن الإخوان الإرهابيين وأنصارهم قد لوّحوا بالإرهاب حال الإطاحة بالعياط، لكن إسقاط جاسوس إرهابى إخوانى عن عرش مصر هو فى ذاته نزعُ شوكة مسمومة من جسد مصر ومن جسد المصريين جميعًا بمن فيهم الأقباط، وهذا ما قصده البابا، رغم الفاتورة الباهظة التى دفعتها مصر، والتى دفع ويدفع الأقباطُ القسطَ الأكبر منها ثمنًا لإسقاط الإخوان.
٢- إن قداسة البابا سلك سلوك المواطن المصرى الوطنى الشريف الذى لا يُعرِّض ببلاده أمام الأغراب، مهما تعقدّت الظروفُ وسال الدمُ البرىء، لأن شرفَ مصر هو شرفُ المصريين جميعًا مسيحيين ومسلمين. ونحن لا ننشر غسيلنا على حبال الجار، مهما تعذبنا فى بلادنا. قداسة البابا تواضروس، رفض كما رفض من قبله قداسةُ البابا شنودة- رحمه الله- أن تُحلَّ مشاكلُ الأقباط من خارج مصر. لأن مصر أولى بحلّ مشاكل أبنائها.
لهذا، أقدّم بوافر التقدير تحيةَ احترام وإعلاء وشكر لقداسة البابا الشريف، ولكل مسيحى مصرى شريف يعرف قيمة مصر التى تعلو على ما عداها من قيم. لكن هناك ملحوظة أوجهها لنفسى ولكل مصرى مسلم ولكل مسؤول فى مصر:
ليتنا نكون على قدر ذلك الدرس الوطنى الرفيع الذى لا يتوقف مسيحيو مصر يومًا عن كتابته على سبورة مصر.
ليتنا نعى أن ما تحمّلوه من عذابات من أجل مصر منذ خمسين عامًا، ومن أجل إنجاح ثورة ٣٠ يونيو، تفوق القدرة على التصور.
لهذا، فكل مواطن مصرى مَدين لأقباط مصر بالشىء الكثير، مثلما مصر مَدينة لهم بالشىء الكثير.
علينا أن نتحضّر، ونسمو، ونعيد ترتيب أوراق سلوكنا، لنكون على مستوى وطنيتهم وحبهم لمصر وللمصريين ولثورات مصر، منذ ١٩١٩ وحتى اليوم. علينا أن نتذكر أمهات الشهيدات والشهداء، حين قلن: «أنا مسامحة فى دم ولادى، ولادى فدا مصر»، حتى نكون عند مستوى إحسانهم، لأن الآية الكريمة تقول: «هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسانُ»؟!
هذا الخبر منقول من : المصري اليوم