الصوم يا إخوتي ليس هو مُجرَّد جوع للجسد، بل هو غذاء للروح. الصوم فترة ترتفع فيها الروح، وتجذب الجسد معها. تُخلِّصه من أثقاله، وتجذبه معها إلى فوق، لكي يعمل معها عمل الرب بلا عائق. والجسد الروحي يكون سعيداً بهذا ... الصوم هو تعبير الجسد عن زهده في المادة والماديات، واشتياقه إلى الحياة مع الله. وذلك باشتراكه مع الروح في عملها.
+ الصوم ليس مُجرَّد فضيلة للجسد بعيدة عن الروح. فكل عمل لا تشترك فيه الروح لا يُعتبر فضيلة على الإطلاق. إن عمل الجسد في الصوم هو تمهيد لعمل الروح، أو هو تعبير عن مشاعر الروح. إن الصوم هو روح زاهدة، تشرك الجسد معها في الزهد. وبهذا لا يكون الصوم هو الجسد الجائع بل الجسد الزاهد. ليس هو حالة الجسد الذي يجوع ويشتهي أن يأكل، بل الجسد الذي يتخلَّص من شهوة الأكل ولو لفترة مُعيَّنة.
+ لذلك فإن الصوم لابد أن تصحبه بعض الفضائل، لكي يكون صوماً روحياً. وأوَّل فضيلة ترتبط بالصوم هو ضبط النفس. وكما يضبط الصائم نفسه من جهة شهوة الطعام، كذلك يضبط نفسه عن كل فكر خاطئ وكل كلمة رديئة، وكل رغبة بطالة. ثم بعد ذلك يقوي فيه ضبط النفس حتى يصبح منهج حياة. ليس في أيام الصوم فقط إنما في أيام الفطر أيضاً.
+ والصوم أيضاً تصحبه التوبة. فيحاول الصائم أن يتخلَّص من كل خطيئة تتعبه وتُعكِّر صفو قلبه وعلاقته مع الله. وبدون التوبة يرفض الله الصوم ولا يقبله. فالله يُريد القلب النقي أكثر مِمَّا يُريد الجسد الجائع. والتوبة موضوع طويل ينبغي في صومنا أن نحرص على جميع ما تتطلبه التوبة من مشاعر ومن تغيير الحياة إلى أفضل.
كذلك يرتبط الصوم بأعمال الرحمة والصدقة. فالذي يشعر في الصوم بألم الجوع يشفق بلا شك على الجياع. ولا تكون مُجرَّد شفقته مقتصرة على المشاعر وإنما تمتد إلى العطاء بقدر ما تستطيع. ولذلك ما أكثر موائد إطعام الفقراء في فترات الصوم. وإذا ما تمَّ التدرب على هذه الفضيلة تمتد أيضاً في غير ايام الصوم وتصبح فضيلة إطعام الفقراء مستمرة على طول الأيام.
+ ولما كان الصوم فترة روحية مميزة، لذلك تصحبه الصلاة والعبادة، فيكون فترة للقراءات الروحية والتأمُّلات الروحية والصلة بالله. أمَّا الصوم بدن صلاة وتأمُّل، فيكون مُجرَّد عمل جسداني بعيد عن الروح. بل الصوم أيضاً فرصة للصلاة. لأنَّ صلاة واحدة تصليها وأنت صائم هى أعمق من صلوات عديدة يكون فيها الجسد ممتلئاً بالطعام.
وليس الصوم فقط فترة غذاء روحي، إنما هو بالأكثر فترة تخزين للروحيات، أي فترة طاقة روحية غير عادية تسند الإنسان في أيام الإفطار أو أيام الفتور الروحي. والذي يكون أميناً لروحياته في فترة الصوم تنفعه هذه الأمانة في وقت المحاربات الروحية أو إغراءات الخطية.
+ والصوم يكون فترة للتداريب الروحية العديدة، وتختلف هذه التداريب من شخص إلى آخر حسب احتياج كل إنسان. فقد يتدرَّب شخص ما على ترك عادة مُعيَّنة. مثل مدمن التدخين مثلاً الذي يتدرَّب في الصوم على ترك تدخينه. أو قد يتدرب إنسان على ترك بعض أخطاء اللسان والغضب، أو أيَّة نقطة ضعف فيه.
+ ومن التداريب النافعة التي يحرص عليها البعض في صومهم، هى التداريب الخاصة بمقاومة الوقت الضائع: الضائع في الكلام الزائد، وفي المناقشات التي لا تفيد، وفي بعض الترفيهات التي يمكن الاستغناء عنها. مع التدرب على الاستفادة بهذا الوقت فيما يبني الشخصية وينفعها. وكل إنسان يعرف أين يضيع وقته وهو جزء من حياته من الخسارة أن يضيع.
+ ومن التداريب النافعة أثناء الصوم، تلك التداريب الخاصة بحسن العلاقات مع الآخرين. كأن تدرب نفسك أثناء صومك على مصالحة مَن انقطعت صلتك بهم، لغير ما سبب جوهري يدعو إلى ذلك. كذلك التدريب على مساعدة الغير أو حل مشاكل البعض، أو إسعاد أي إنسان بطريقة ما. وبهذا تكون فترة الصوم بركة لك وللآخرين أيضاً. وعلى الأقل لا تسمح لنفسك بأن تكون فترة الصوم أيام خصومة لك مع الآخرين. فأنت إن لم تستطع أن تنفع غيرك، فعلى الأقل لا تؤذ أحداً.
+ ما أجمل في فترة الصوم أن يعتكف أحد الكُتَّاب ليؤلِّف كتاباً يشتهي الناس قراءته. أو أن أحد الكبار يعتكف ليكتب مذكَّراته وينشرها ... وبالمثل أيَّة فرصة خلال الصوم لإنتاج فكري أو فني أو علمي.
+ ما أكثر المنافع التي يمكن أن يستفيد بها الناس في فترة الصوم إن أرادوا ذلك. ومن أجل هذا سمح الله أن يوجد الصوم في جميع الأديان وفي جميع البلاد وفي كل العصور، لقصد إلهي يراه.
فلو أن كل شخص في فترة الصوم ركَّز على فضيلة واحدة يقتنيها، لأصبح الصوم ذا نفع للصائم من جهة وللمجتمع كله ... وأنه لكذلك.
+ من أجل هذا عليك أيها القارئ العزيز أن تجلس إلى نفسك، وتذكر كم من الأصوام مرَّت عليك، وما الذي انتفعت به روحياً من تلك كل الأصوام؟ إن كنت لم تنتفع فاعرف أنك قد سلكت في الصوم بطريقة خاطئة أو بطريقة جسدانية بحتة لم تشترك فيها روحك. أو أنك أخذت من الصوم مظهره الخارجي دون أن تدخل إلى جوهره وتعرف الهدف منه كوصية إلهية!
+ إننا من أعماق قلوبنا نشكر الله ـ تبارك اسمه ـ الذي منحنا فضيلة الصوم، وأعطانا هذه الوصية التي ترقى بها أجسادنا وأرواحنا .. هو أيضاً فلنسأله أن يمنحنا القوة والحكمة لكي نصوم كما ينبغي صوماً مقبولاً عند الله ونافعاً لنا نحن البشر.